فصل: قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:

ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَمُودَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة:
هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَخَفُّ ذَنْبًا وَعَذَابًا مِنْهُمْ إذْ لَمْ يَذْكُرُ عَنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ مَا ذَكَرَ عَنْ عَادٍ وَمَدْيَنَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَهُمْ وَعَادًا قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُمْ مَعَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ مَا يَذْكُرُ عَنْ أُولَئِكَ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَاللِّوَاطِ وَبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمَا. فَكَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مَعَ الشِّرْكِ إتْيَانُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا؛ وَفِي عَادٍ مَعَ الشِّرْكِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّوَسُّعُ فِي الدُّنْيَا وَشِدَّةُ الْبَطْشِ وَقولهمْ {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} وَفِي أَصْحَابِ مَدْيَنَ مَعَ الشِّرْكِ الظُّلْمُ فِي الْأَمْوَالِ؛ وَفِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُلُوُّ.
وَكَانَ عَذَابُ كُلِّ أُمَّةٍ بِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ. فَعُذِّبَ قَوْمُ عَادٍ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْعَاتِيَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ؛ وَعُذِّبَ قَوْمُ لُوطٍ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يُعَذَّبْ بِهَا أُمَّةٌ غَيْرُهُمْ. فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَالْخَسْفِ بِهِمْ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ. وَعَذَّبَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالنَّارِ الَّتِي أَحْرَقَتْهُمْ وَأَحْرَقَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَأَمَّا ثَمُودُ فَأَهْلَكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ فَمَاتُوا فِي الْحَالِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا عَذَابَهُ لِهَؤُلَاءِ وَذَنْبُهُمْ مَعَ الشِّرْكَ عَقْرُ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لَهُمْ فَمَنْ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ وَاسْتَخَفَّ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعَقَرَ عِبَادَهُ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ كَانَ أَشَدَّ عَذَابًا. وَمَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَا يُعَاقَبُ بِهِ مَنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَقَامَ الْفِتَنَ وَاسْتَهَانَ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الشمس:
{وَالشَّمْسِ وضحاها (1)}
قوله: {وضحاها}: قد تقدَّم في (طه) الكلامُ على هذه المادةِ وقال المبرد: إن الضُّحى والضَّحْوةَ مشتقان من الضَّحِّ وهو النورُ، فأُبْدلت الألفُ والواوُ من الحاءِ. هذا يكادُ يكونُ اختلاقاً على مثلِ أبي العباس لجلالتِه.
{وَالْقَمَرِ إِذَا تلاها (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جلاها (3)}
قوله: {جلاها}: الفاعلُ ضميرُ {النهارِ}، وقيل: عائدٌ على الله تعالى. والضميرُ المنصوبُ: إمَّا للشمسِ، وإمَّا للظُّلمةِ، وإمَّا للدنيا، وإمَّا للأرضِ.
قوله: {إِذَا تلاها} وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جوابَ لفظاً، وتقديرُه غيرُ صالحٍ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ، و{إذا} ظرفٌ مستقبلٌ، والحال لا يعملُ في المستقبلِ. وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى.
ويَخُصُّ {إذا} الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال: فإن قلتَ: الأمرُ في نصبِ {إذا} مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو: إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن، وفي نحو قولك: (مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ) وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه.
قلت: الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول: (ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً) فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ، لقيامِها مَقامَ (ضرب) الذي هو عامِلُهما. انتهى.
قال الشيخ: إمَّا قوله: (في واوات العطف: فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ) فليس هذا بالمختار، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك. وقوله: (فتقع في العطفِ على عاملَيْن) ليس ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ، وذلك نحوُ قولك: (امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً) وأنشدَ سيبويهِ في كتابه:
وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها ** صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقرأ

فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ، على مجرورٍ ومرفوعٍ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ. وقوله: وفي قولك: (مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ) هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ، بل وِزانُ ما في الآية: (مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ) ونحن نُجيز هذا وأمَّا قوله (على استكراه) فليس كما ذَكَر، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قوله عزَّو جلّ: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 13]. الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولك: (مررتُ بزيدٍ وعمرو) والأولى بمنزلةِ التاء والباء. وأمَّا قوله: (إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً) فليس هذا الحكمُ مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ، فتقول: أُقْسِم- أو أَحْلِفُ- واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ، وأمَّا قوله: (والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه) إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار. قال: والذي نقوله: إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في {إذا} بعد الأقسام، كقوله: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] {والليل إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} [المدثر: 34] {والقمر إِذَا تلاها}، {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] وما أَشْبهها، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ. ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه، أي: وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول. ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل، لاسيما إنْ كان جُرْماً. ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه: والنجمِ كائناً إذا هوى، والليلِ كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ (كائناً) أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً. وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ، كما لا تكونُ أخباراً. انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في {إذا} وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قوله وأبيِّنُ ما فيه.
فقوله: إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم، لأنه يختارُ القول الآخَرَ. وقوله: ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن. ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن: أنَّ قوله: {والنهار إِذَا جلاها} هنا معمولان أحدهما مجرورٌ وهو {النهار} والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن، والعاملان هما: فعلُ القسمِ الناصبُ لـ: {إذا} الأولى، وواوُ القسمِ الجارَّةُ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم. وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟
وأمَّا قوله: وأنشد سيبويهِ إلى آخره. فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ.
وأمَّا قوله أجازَ ابنُ كَيْسان. فلا يَلْزَمُه مذهبُه. وأمَّا قوله: فالمثالُ كالآيةِ، بل وزانها إلى آخره. فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر: وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ.
وأمَّا قوله بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره. فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه. غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ. وقوله: ولا جائزٌ أَنْ يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ. إلى آخره، فأقول: بل يجوزُ تقديرُه: وهو العاملُ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ. وقوله: ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ، فيكون قد عَمِل فيه. إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك، وتكون حالاً مقدرةً. قوله: يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ. ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم. قوله: وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً. جوابُه: يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشاها (4)}
قوله: {يغشاها} المفعولُ للشمسِ.
وقيل: للأرض، وجيء بـ: {يغشاها} مضارعاً دونَ ما قبلَه وما بعدَه مراعاةً للفواصلِ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيبُ (إذا غَشِيَها) فتفوتُ المناسبةُ اللفظيةُ بين الفواصلِ والمقاطع.
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بناها (5)}
قوله: {وَمَا بناها}: وما بعدَه، فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ (ما) موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختاره ابن جرير.
والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ السماء، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذا القول: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر: بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجِيب عنه بوجهَيْن، أحدهما: يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ- أو باني- بناءِ السماء ونحوه.
والثاني: أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري: جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقوله: {فأَلْهمها} وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على {من} لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سواها. وفي كلامهم: سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا. انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في {فألهمها} عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في {بناها} كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ {ما} فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.
وقال الشيخ: أمَّا قوله: وليس بالوجهِ لقوله: {فَأَلْهمها} يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في {فَأَلْهمها} على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو {ما} المرادُ به الذي.
قال: ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي {بناها} ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول: (عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً) تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله: وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم. ليس كذلك، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله: وإنما أُوْثِرَتْ. إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف (الذي) فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به (ما) دون {من} وقوله: وفي كلامِهم. إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ (سبحان) عَلَم و(ما) مصدريةٌ ظرفيةٌ. انتهى.
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قوله: فلا تنفرد به (ما) دونَ (من) فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3]، وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به {ما} دون مَنْ. والتنكيرُ في {نفس}: إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5].
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها (9)}
قوله: {قَدْ أَفْلَحَ}: فيه وجهان:
أحدهما: أنه جوابُ القسم، والأصل: لقد، وإنما حُذِفَتْ لطولِ الكلامِ.
والثاني: أنه ليس بجوابٍ وإنما جيْءَ به تابعاً لقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} على سبيل الاستطرادِ، وليس مِنْ جوابِ القسم في شيءٍ، فالجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ليُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عليهم، أي: على أهلِ مكةَ لتكذيبِهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، كما دَمْدَم على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً صلى الله عليه وسلم، قال معناه الزمخشري، وقدَّره غيرُه: لتُبْعَثُنَّ.
وقوله: {طحاها} [الشمس: 3]، أي: دَحاها، وقد تقدَّم معناه. وفيه لغتان، يقال: طحا يَطْحوا وطحى يَطْحي. ويجيءُ طحا بمعنى ذهب، قال علقمة:
طحابك قَلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ ** بُعَيْدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشيبُ

ويقال: طحا بمعنى ارتفعَ. وفي أقسامِهم: (ولا والقمرِ الطَّاحي)، أي: المرتفعُ. وفاعلُ {زكاها} و{دساها} الظاهرُ أنه ضميرُ {من} وقيل: ضميرُ الباري تعالى، أي: مَنْ زكاها اللَّهُ، ومَنْ دساها اللَّهُ، أي: مَنْ زَكَّى اللَّهُ نفسَه. وأنحى الزمخشريُّ على صاحبِ هذا القول لمنافرتِة مذهبَه، والحقُّ أنَّه خلافُ الظاهرِ، لا لما قال الزمخشريُّ، بل لمنافرةِ نظمِه للاحتياجِ إلى عَوْدِ الضميرِ على النفسِ مقيدةً بإضافتِها إلى ضمير {من}.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها (10)}
قوله: {دساها}: أصلُه دسَّسَهَا فَكَثُرَتْ الأمثالُ فأُبْدِل مِنْ ثالِثها حرفَ علةٍ كما قالوا: قَصَّيْتُ أَظْفاري. وقوله:
تَقَضِّيَ البازِي

والتَّدْسِيَةُ: الإِخفاءُ بمعنى أخفاها بالفجورِ، وقد نَطَق بالأصل مَنْ قال:
وأنت الذي دَسَّسْتَ عمراً فأصبحَتْ ** حَلائلُه منه أراملَ ضُيَّعاً

ومن قال:
ودَسَّسْت عَمْراً في التراب فأصبحَتْ

البيت.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها (11)}
قوله: {بطغواها}: في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها للاستعانةِ مجازاً، كقوله: (كتبتُ بالقلمِ) وبه بدأ الزمخشري ويعني فَعَلَتِ التكذيبَ بطُغْيانها، كقولك: (ظلمَني بجُرْأتِه على الله تعالى).
الثاني: أنها للتعدية، أي: كَذَبَتْ بما أُوْعِدَتْ به مِنْ عذابها ذي الطُّغيان، كقوله تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5].
والثالث: أنها للسببية، أي: بسبب طُغْيانِها.
وقرأ العامَّةُ {طَغْواها} بفتح الطاءِ وهو مصدرٌ بمعنى الطُّغيان، وإنما قُلِبَتْ الياءُ واواً فَرْقاً بين الاسمِ والصفةِ، يعني، أنهم يُقِرُّون ياءَ فَعْلى بالفتح صفةً نحو: خَزْيا وصَدْيا، ويَقْلبونها في الاسم نحو: تَقْوى وشَرْوى، وكان الإِقرار في الوصفِ لأنه أثقلُ مِنْ الاسمِ، والياءُ أخفُّ من الواوِ، فلذلك جُعِلت في الأثقل.
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بضم الطاء، وهو أيضاً مصدرٌ كـ: {الرُّجْعى} و{الحُسْنى}، إلاَّ أنَّ هذا شاذ إذ كان مِنْ حَقِّه بقاءُ الياءِ على حالِها كالسُّقْيا وبابها، هذا كلُّه عند مَنْ يقول: طَغَيْتُ طُغْياناً بالياءِ، فأمَّا مَنْ يقول: طَغَوْت بالواو فالواوُ أصلٌ عنده، قاله ابو البقاء، وقد تقدَّم الكلامُ على اللغتين في البقرة والله الحمدُ.
{إِذِ انْبَعَثَ أشقاها (12)}
قوله: {إِذِ انبعث}: {إذِ} يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: أَنْ يكونَ ظرفاً لـ: {كذَّبَتْ}.
والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً للطَّغْوى.
و{أشقاها} فاعلُ {انبعَث} وفيه وجهان:
أحدهما: أَنْ يُراد به شخصٌ واحد بعينه. وفي التفسيرِ أنه رجل يُسَمَّى قُدار بن سالف.
والثاني: أن يُراد به جماعةٌ، قال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعةً والتوحيد لتَسْوِيَتِك في أفعلِ التفضيل إذا أضفْتَه، بين الواحد والجمع والمذكرِ والمؤنثِ، وكان يجوزُ أَنْ يقول: أشْقَوْها. انتهى. وكان ينْبغي أَنْ يُقَيِّد فيقول: إذا أضَفْتَه إلى معرفةٍ؛ لأن المضافَ إلى النكرةِ حُكْمُه الإِفرادُ والتذكيرُ مطلقاً كالمقترنِ بـ: (من).
{فَقَالَ لَهُمْ رسول اللّه نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها (13)}
قوله: {فَقَالَ لَهُمْ}: إنْ كان المرادُ بـ: {أشقاها} جماعةً فعَوْدُ الضميرِ مِنْ {لهم} عليهم واضحٌ، وإنْ كان المرادُ به عَلَماً بعينِه فالضميرُ مِنْ {لهم} يعودُ على {ثمود}.
قوله: {نَاقَةَ الله} منصوبٌ على التحذير، أي: احْذَروا ناقةَ اللَّهِ فلا تَقْرَبُوها، وإضمارُ الناصبِ هنا واجبٌ لمكانِ العطف، فإنَّ إضمارَ الناصبِ يجبُ في ثلاثةِ مواضع:
أحدها: أن يكونَ المحذَّرُ نحو: (إياك) وبابه.
الثاني: أن يُوجدَ فيه عطفٌ.
الثالث: أَنْ يوجَدَ فيه تَكْرارٌ نحو: (الأسدَ الأسدَ) وقرأ زيد بن علي {ناقةُ الله} رفعاً على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هذه ناقةُ اللَّهِ فلا تتعرَّضوا لها.
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فسواها (14)}
قوله: {فَدَمْدَمَ}: الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإِطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه.
وقيل: الإِلزاقُ بالأرض.
وقيل: الإِهلاكُ باستئصالٍ.
وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في {بذَنْبهم} للسببية.
قوله: {فسواها} الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قوله: {بطغواها} ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ، أي: سواها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحد.
وقرأ ابن الزبير {فَدَهْدَمَ} بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءة المشهورةِ.
{وَلَا يَخَافُ عقباها (15)}
قوله: {وَلاَ يَخَافُ}: قرأ نافعٌ وابنُ عامر {فلا} بالفاء، والباقون بالواو، ورُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام بالفاء وفي غيرِها بالواوِ، فقد قرأ كلُّ بما يوافقُ رَسْمَ مُصْحَفِه. ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {ولم يَخَفْ} وهي مُؤَيَّدَةٌ لقراءة الواوِ، ذكره الزمخشري، فالفاءُ تقتضي التعقيبَ، وهو ظاهرٌ. والواوُ يجوزُ أَنْ تكونَ للحالِ، وأنْ تكونَ لاستئنافِ الأخبارِ، وضميرُ الفاعل في {يَخاف} يحتملُ عَوْدُه على الرَّبِّ، وهو الأظهرُ، لكونِه أقربَ مذكورٍ.
والثاني: أنه يعودُ على رسولِ الله، أي: ولا يخاف عقبى هذه العقوبةِ لإِنذاره إياهم. والثالث: أنه يعودُ على {أشقاها} أي: انبعَثَ لعَقْرها، والحالُ أنه غيرُ خائفٍ عاقبةَ هذه الفَعْلَةِ الشنعاءِ. وعقبى الشيء خاتمتُه. اهـ.